الملحق الأول

 
يوسف الأشقر, نشر على الإنترنت : الثلاثاء 24 كانون الثاني (يناير) 2006

الملحق الأول الأمن في المتوسّط والمصائر الأُوروبية

محاضرة أُلقيت في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق في 30/1/1987 نقلها إلى العربية نورس ميرزا.

هذه المحاضرة موجهة، سياسياً، إلى الرأي العام الأُوروبي وإلى مراكز القرار السياسي في أُوروبا في شكل خاص.
تعرض قراءة عامة لتاريخ المتوسِّط، وزاويةً جديدة للمسار الحضاري فيه، وتبحث الوضع الجيوسياسي والجيوثقافي الراهن، وهي دعوة إلى التوقُّف عند أبعاد الصراع الحضاري القائم، اليوم، في المتوسِّط.
نضمّها إلى هذا الكتاب لأنها تضيء البعد الحضاري لصراعنا مع إسرائيل حيث تجد الحرب اللبنانية، في نظرنا، موقعها التاريخي وحيث هو مفترقها الحضاري.

تمهيد

الهاجس الأمني في أُوروبا يحتلّ الصدارة.إنه مصدر قلق كبير وهو قلقٌ مشروع، لأن الشأن الأمني يمسّ، حيوياً ومباشرة، القطاعات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والعسكرية وغيرها.

ولهذا القلق مبرراته النفسية. فهو يصدر عن حالة يسودها الشعور بالعبثية الغاشمة بكلّ مصطلحاتها وإحتمالاتها القاسية والمعذَّبة، من أخطار المباغتة إلى عوامل الصدفة والخطر والمفاجآت حتى لتُهدِّد كلّ الناس أفراداً وجماعات.

هذا القلق يفرض نفسه على الجميع في حوض المتوسّط بفعل إنتشار مؤشِّرات غير مُطمَئِنة تزداد حدّة وتتسارع في وضع راكد وهارب في آن.
ونرانا مدفوعين، على ما يبدو، إلى إختصار مفهوم الخلل الأمني بأحد أغراضه الأكثر حضوراً والأشدّ قساوةً وخطراً، هو الإرهاب.
وتكتشف أُوروبا أنّها تتلقّى، بشكل مباشر وبلحمها الحيّ، مضاعفاتٍ ونتائج لأحداث تُفلتُ من سيطرتها، وهي، أُوروبا، غير مسؤولة عنها إلاّ جُزئياً.

ليس مفاجئاً أن تتلقّى أُوروبا أُولى الهزّات والصدمات التي تحدث في المتوسّط. إنما المفاجئ والمُدهش، ألاّ تُدرك أُوروبا ذلك، وأن تكون تفاجأت فعلاً. والمفاجأة الكبرى حتى العجب، أن ترتجل أُوروبا ردود فعلها على الأحداث اليومية الراهنة، بدلاً من أن تتصرّف وفقاً لخطة أُوروبية مرسومة، خصّيصاً، للمتوسّط ولمصائر حوضه. فنحن نعتقد أنّ المتوسّط، بالنسبة إلى أُوروبا، ليس فقط مجرّد حقل للنشاطات أو مسرح للمبادلات يُمكن الإستغناء عنه وإيجاد بديل منه. فالمتوسّط هو، أولاً، عالَم، وهو لا يؤلّف فقط المدى الحَيوي الأوّل لبلدان حوضه، بل هو، قبل كلّ شيء، المقرّ الكبير لإنتمائها وتجلّياتها حيث تعبّر بالأصالة عن نفسها. وأُوروبا لا تشذّ على هذه القاعدة.

سنعود، لاحقاً، إلى التعريف التاريخي والثقافي بهذا "العالم"، وإلى تكوينه وخصائصه. غير أنّنا، قبل أن نعرض "مباشرة" لموضوعنا الذي يتناول أمْن المتوسّط والمصائر الأُوروبية، نحرص على التأكيد أنّ مقاربتنا هي، في جوهرها، تاريخية ثقافية. ونحن نأمل أن تتمكّن هذه المقاربة من أن تحمل على التبصّر السياسي والجيوسياسي، الأُوروبيين قبل غيرهم، ومعهم جيمع الذين يُدركون خطر الأوضاع القائمة في المتوسّط وعواقبها.

إلاّ أنّنا نُدرك أنّ التحليل التاريخي والموضوعي والعقلاني قد يتراجع أمام ما يعترضه من موقفين سائدين في الوقت الراهن، هما:
المقاربة الإيديولوجية المتشدّدة في حماستها (مقاربة ثقافية، دينية، قارّية أو إقليمية)، وهي محكومة بنظر أحاديّ لا يرى غير الأضداد كالظلمة والنور والأبيض والأسود، ولا يعترف بالألوان الوسيطة.

والمقاربة العملية التبسيطيّة المأخوذة، كلّياً، بالبحث عن الوسائل، والمكتفية باللجوء إلى الردّ والإنتقام.

إذ أنّنا نلاحظ، بوضوح، أنّ الأوساط السياسية ومراكز القرار وحتى الأوساط الفكرية، تُصبح، مع الأسف، تحت وطأة الأحداث وفي حميّاها، أكثر إستعداداً للإستعانة باللإيديولوجيا، أو أكثر إلحاحاً وتسرّعاً في اللجوء إلى وصفات عملية مزيّفة أو سحرية (إذا تهيّأ لها أنها فعّالة)، وذلك بدلاً من التوقّف الرصين والتركيز، بعنايةٍ، على قراءة الوضع قراءة هادئة وخصبة في إيحائها، تستنفر الطاقات الخلاّقة وتعتمدُ تفهّم القلب والعقل والخيال المُبدِع والقدرة على التخطّي.

ومع ذلك تبقى هذه القراءة الأخيرة، بالذات، ضرورية ولا غنى عنها لأنّ ما يجري حالياً في المتوسّط وما يُحتمَل أن يجري فيه، هو خطِر وخطير. بل هو فظيع، في رأينا، وهو محكوم بأن يُصبح أكثر فظاعةً إذا قُدِّر لهذا الإختراق الإيديولوجي المسخ، بمختلف وجوهه وألوانه، أن يقود هذه العملية البربرية في زرع التوحُّش إلى نقطة اللاّرجوع، حيث يكتشف جميع الشركاء في المتوسّط، وعلى رأسهم الأُوروبيون، ولكن بعد فوات الأوان، أنّهم أمام تيّار ما عاد ممكناً ردُّه، وأمام أعطاب وأضرار ما عاد ممكناً إصلاحُها.

نحن نأمل في أن تتمكّن قراءة تاريخيّة بمنظار جيوثقافي واسع، من الإسهام في توسيع حقل الرؤية عند الأطراف وعند المعنيّين، بحيث توضَع الأحوال الراهنة في سياق أكثر ثباتاً وأكثر عقلانية وإنسانية، بل أكثر واقعية من الواقعية المزعومة المقصور همُّها على إدارة الأزمة اليومية، في الدوائر السياسية والعسكرية.

ونأمل أن نُسهم، بذلك، في صياغة تشخيصٍ يكون أقلَّ تأثُّراً بالتحريضات المثيرة للإنفعالات، وفي الوقوع على خيارات سلوكٍ وخيارات عملٍ تكون أقلَّ خضوعاً وتبعيّة لمبدأ القوة وعلاقاتها.

وإذا سمحنا لأنفسنا أن تقودنا محاولتنا إلى التوغُّل بعيداً في الماضي، نحو معالم تعود إلى مئات السنين بل إلى أُلوف السنين، يقيناً منّا أنّها في أساس القَسَمات البارزة في حياتنا الراهنة، نرانا نمتنع، في ما نقوله عن المستقبل، عن أن نستشرف ما هو أبعد من السنوات القليلة المتبقّية من القرن العشرين، وهو قرن مهدَّد بأن ينتهي بكارثة تنطلق من المتوسّط. ولكنّه، بالمقابل، يستطيع أن يستقي دروس الخلاص من التجربة التاريخية لهذا الحوض نفسه، وهي تجربة الحصيلات الكبرى التي، بفضلها، أمّنت المدنيّة عمرها المديد وبقاءها وحقّقت أغنى إنجازاتها.

أُوروبا والمتوسّط

في المتوسّط، وبالمتوسّط عرفتْ أُوروبا نفسها وعرّفتْ بنفسها. فهي غربٌ بالنسبة إليه. وهي لم تكن غرباً للمتوسّط إلاّ وعلى المقلب الآخر من حوضه شرقٌ يقابلها ويسبقها أبداً إلى إستقبال الشمس.

كان المتوسّط قبل أن تكون أُوروبا. وحين فتحت أُوروبا عينيها كان المتوسّط أَمّاً لها ومرضعاً، لفترة طويلة، قبل أن يتحوّل هذا البحر إلى محميّة أُوروبية. كانت أُوروبا متوسّطيّة، لزمن طويل، قبل أن يصبح المتوسّط، جزئياً أو في شكل أساس، أُوروبّياً. وحين اقتحمت أُوروبا المحيط الأطلسيّ لتثبّت أقدامها على المقلب الآخر من ذلك المحيط، لم يكن عملها، بمعناه الأخير، إلاّ محاولة لتمديد الغرب المتوسّطي أو لنقْل صورته إلى ذلك المقلب.

تغريب جيوسياسي

ولكنّ هذا الإندفاع إلى البعيد أصبحت له قوانينه الخاصّة. فالنَفَس الإنساني الدافئ، والحيّ الفاعل، الذي كان يزنّر المتوسّط، وهو حوض تتواصل جميع شواطئه في الثقافة كما في الطبيعة، هذا النَفَس الإنساني تَبعثر وفَقد حرارته فوق المياه النائية في عرض المحيط الذي لا يعرف إلاّ شاطئين منفصلين ومتباعدَين، على نقيض المتوسّط ذي الحوض الدافئ والمتتابع والمتراصّ والمتّصل والمتفاعل.

ولم تلبث قوانين هذا البعيد أن فرضت نفسها. فهذا "العالم الجديد" أدار ظهره للـ"غرب القديم" وانطلق إلى غزو غربه الخاصّ في قارّته، حتى إذا بلغ شواطئ المحيط الهادئ، تمدّد، بدوره، فيه متطلّعاً إلى آفاقه وشواطئه البعيدة.

هذا "الغرب الأدنى" بالنسبة إلى الولايات المتّحدة الأميركية، وهو، سابقاً وأبداً، "الشرق الأقصى" للأُوربيين، شَغَل المدّ الرئيسي للأميركيين واستحوذ على المكانة المفضّلة في إهتماماتهم بمشاريع المستقبل كما في همومهم الأمنية.

وانتقل المسرح الجيوسياسي إلى المحيط الهادئ مع سياسات الإستقطاب التي جاءت مباشرةً بعد الحرب الكونية الأخيرة. واستُبعِد المتوسّط إلى الخطوط الخلفية الثانوية، وتدنّى إلى المرتبة الإقليمية، ووجد نفسه مهدَّداً بأخطار تكاد تقضي عليه، أو مُعانياً منازعات تُنهكه وتستنفده.

أُوروبا العظمى التي كانت حقلاً للمذابح مرّتين في أقلّ من ثلاثة عقود، والُمثخَنَة بجراحها العميقة والُمثقَلَة بما أصابها من أهوال التدمير والإجتياحات؛

أُوروبا العظمى المُصابة بالخيبات الكبيرة بعد أن كانت، عشيّة هذا القرن، مُنتَشية بنجاحاتها، راكنة إلى عبادتها لشعار التقدّم ووعوده في القضاء على التوحّش لغير رجعة له؛

أُوروبا العظمى التي يتنازعها ويتنازع عليها، لأوّل مرّة في تاريخها، حلفاء خصوم جبابرة يتجاوزها كلٌّ منهم بقدراته؛
أُوروبا المروَّعة والخائبة والمصغّرة والهاجسة بإختلال أمنها، الحقيقي والوهمي؛

أُوروبا هذه، كانت تبحث، قبل كل شيء، عن صيغة لأمنها. فوجدت ملاذاً لها، وهي الممزَّقة، في حلفين متخاصمين أمّن كلُّ منهما بعضهما وأقلق بعضها الآخر، في آن واحد.

الآثار على أُوروبا

سخرية القدر في هذه الحقبة، أن أُوروبا الغربية المغموسة حياتها ومقوّمات أمنها في المتوسّط والمصوغة فيه ملامح شخصيّتها، وجدت نفسها تدير ظهرها لهذا الحوض وتلتحق بحلف ينتمي إلى المحيط الأطلسي، ويصبّ في المحيط الهادئ، ويسلِّم زمام المتوسّط، بشكل خاصّ، إلى من يتزعّم الحلف ويمسك بالخيوط العامّة في الصعيد الدولي. إذ أنّ هذا الحلف، في رأينا، لا يستشرف ولا يهيّئ لخصوصيةٍ متوسّطية في حياة أُوروبا وأمنها، ولا لخصوصيةٍ أُوروبية في المتوسّط.

وبعد أن غُلبت أُوروبا على أمرها في ميزان القوى، في قلب حلفها، حاولت أن تُقنع نفسها بأنّ بحرها أصبح الآن، ومستقبلاً، المحيط الهادئ، وليس عليها إلاّ أن ترضى بذلك وتهنّئ نفسها به. وتأتي مؤتمرات فرساي ووليامسبرغ ولندن وما تَبِعَها من سيناريوات جيوسياسية في الكواليس وفي الدوائر العليا المغلقة، لتتمكّن، في النهاية، من أن تقطُر الأمن الأُوروبي في المتوسّط بالمسار الجيوسياسي العامّ المقيم في البعيد من القارّات والمحيطات. وهذا منح أُوروبا العزاء والشعور بالرضى عن أنها تُسهم في الأمن الإجمالي الذي يُنظَر إليه على أنه غير قابل للتجزئة. وإنطباع أُوروبا، في هذا المجال، هو وَهْم، كما أن شعورها بالرضى هو عزاء كاذب، إذ أن هذا الوضع الجديد أدّى إلى فكّ أُوروبا من إرتباطاتها بالمتوسّط والى تحلّلها من مسؤولياتها فيه، وهذا لا يقلّ عن الإغتراب والإقتلاع في الصعيدين الإقليمي والجيوسياسي الدولي.

لكنّ كلّ هذا لا يستطيع أن يغيّر في واقع الأمور. فأُوروبا تبقى هي إيّاها. وموقعها الدائم هو حيث إنتماؤها الأساس. لكنّها، بدلاً من أن تفيد من أفضلياتها وإمتيازاتها في المتوسّط، بحكم إنتمائها، تجد نفسها مسحوقة تحت وطأة حلفائها وخصومها غير المتوسّطيين، وهدفاً لضربات قاسية تأتيها من قلب المتوسّط.

ولا بدّ، هنا، من الإعتراف بوجود مفارقة حادّة وخَلَل واضح بين الحرية الهزيلة للحضور والفعل الأُوروبيَّين في المتوسّط، فضلاً عن هيمنة الحليف ومنازعة الخصم، من جهة أُولى، والعبء الساحق للنتائج والإنعكاسات التي تتحمّلها أُوروبا إنطلاقا من حوض المتوسّط، ولا يشاركها، في ما تتحمّله وتكابده، حليف أو خصم، من جهة ثانية.

حصيلة أوّلية

نسمح لأنفسنا بأن نخلُص، في الوقت الحاضر، إلى بعض الأفكار الرئيسية التي تتعلّق بموضوعنا.

المتوسّط، بالنسبة إلى أُوروبا، هو مداها الحيوي بإمتياز. وهو المرجعية الأساسية لإنتمائها حيث هي تستطيع خصوصاً من أن تهتدي فتجد نفسها وتعرف نفسها، وحيث تستطيع أن تنهل من مواردها وتعّبر عن نفسها، وحيث يمكنها أن تجد سلامها أو تخسره. وهذا لا تستطيعه كتلة غير متوسّطية مهما تعاظم حجمها.

هذا المدى – المقرّ هو، بالنسبة إلى أُوروبا، فريد لا بديل عنه.
فعلى الرغم من الكلام الكثير عن إنتقال المسرح الجيوسياسي إلى سواه، تبقى الجغرافيا، بالنسبة إلى أُوروبا، الثابت الأساس بدون منازع، لإنتمائها. ونحن، هنا، لا نفكّر فقط في الجغرافيا الطبيعة، بل في الجغرافيا الثقافية والتاريخية أيضاً.

إن إحترام هذه الوقائع، من جهة أُوروبا، ضرورة ملزمة، دونه التعرّض لأخطار مستقبلية فضلاً عن الحالية، وهي أخطار تهدّد في شكل مأسوي أمن أُوروبا، البوليسي، وتهدّد، خصوصاً، أمنها الشامل: الثقافي والحياتي والمستقبلي.

إن هذه العلاقة البنيوية الوثيقة بين المتوسّط وأُوروبا، في وجهها الأمني الراهن، يجب أنْ تحضّ أُوروبا على مراجعة نظرتها إلى نوعية إلتزاماتها وأبعادها وعلى البحث عن خصوصية مزدوجة: خصوصية أُوروبية في المتوسّط ومتوسّطية في أُوروبا.

هذا يستوجب، في نظرنا، إعادة نظر في مفهوم الأمن بالذات. وهي مهمّة تقود إلى إعادة تعريف بالمتوسّط في سياق جيوسياسي وجيوثقافي. وإعادة التعريف، هذه، ستتيح لأُوروبا أن تجيب عن السؤالين الطاغيين الملحّين:

أيَّ متوسّط تحمي؟ أيَّ متوسّط تتَّقي؟

المتوسّط: نموذجان

لنحاول أن نعرض، بإيجاز، للتيّارات الكبرى التي ميّزت تاريخ المتوسّط، وأن ننظر في مداها الجيوثقافي والجيوسياسي، بحيث نتمكّن من الإجابة عن الأسئلة التي تشغلنا، ومن إستخراج أفكار حول أنماط الحياة ومفاهيم السلام والأمن التي عرفها هذا الحوض ونمّاها في شكل متواتر.

سبق وقلنا إن المتوسّط يحمل إمكانين: أن يكون مصدراً لكارثة كبرى أو منطلقاً للخلاص. يتوقّف ذلك على الإتّجاه الذي يأخذه نحو أيّ كان من النموذجين الأساسيين، المجتمعات المنفتحة أو المجتمعات المنغلقة؟ وهل هو يتّجه، في الصعيد الدولي، إلى صيغة "العوالم" أو إلى منطق "الإمبراطوريات"؟

إذن، مجتمعات منفتحة وعوالم، من جهة أُولى، ومجتمعات منغلقة وإمبراطوريات من جهة ثانية.

عرف المتوسط هذين النموذجين على المستوى الفردي للجماعات وعلى المستوى الجماعي في الحوض كلّه. وقد عرف أيضاً عصوراً إنتقالية من نموذج إلى آخر، ومراحل وسيطة لها، وعدداً متنوِّعاً من الثقافات والقوى تَرَجَّح بين قطبي هذين النموذجين. بهذا المعنى يشتمل تراثه على سلّم من أنساق الألوان والتجارب. ونحن نشهد، في عصرنا الراهن، إستمراراً حياً لهذين النمطين في الحياة والعلاقات، وللأنماط الوسيطة. والأزمات الناتجة عن ذلك حالياً لا تختلف كثيراً عن أزمات الماضي.
ففي التاريخ الألفيّ للمتوسّط عرف هذان النمطان فترات من التعايش بأشكال مختلفة من دون أن يوفّق بينهما إلاّ نادراً. وكانت دائماً فترات الوفاق سريعة الزوال وفاشلة، إذ أنّهما كانا نمطين نقيضين يتواجهان متعارضَين على صعيد العلاقات بين الجماعات كما في داخل كلّ جماعة.

ولئنّ عرف المتوسّط، في خلال تاريخه، كلا النموذجين من المجتمعات، فهما لم يكونا متساويَين فقد إحتلاّ، في نسيج الحياة والحضارة المتوسّطيتين وهُويّتهما، حيِّزين متفاوتَين في الأهمية، وبُعدَين متفاوتَين في تقرير الطابع العامّ. فالمجتمع المنفتح، الذي كان في أساس التجربة التاريخية للمتوسّط، لم يبارحها أبداً. وفي خلال الفترات الأشدّ صعوبة ظلّ يُثبت حضوره الفاعل ويفرض نفسه في مواجهة المجتمع المنغلق. ال"العالم" المتوسّطي، بدوره، وبحكم طبيعته المنفتحة، المرحّبة بما يأتيها، الموفّقة والسمحة، إستمرّ يقاوم كلّ منحى تماثُليّ مفروضٍ عنوةً، وكلَّ تصدُّع ومباعدة بين مجموعة أطرافه المتفاعلة، وكلَّ قطيعة مع الخارج. مع العلم أنّ التماثل القسريّ والتباعد والعزلة والقطيعة هي سمات بارزة ميّزت عصور الإمبراطوريات.

المتوسّط "عالم"

حين نتشخّص المتوسّط التاريخي بهذا المنظور، تنجلّى لنا أسبقية أنماط المجتمع المنفتح (العالم) على أنماط المجتمع المنغلق (الإمبراطورية) فيه. إنها أسبقية زمنية وأسبقية ثقافية ثابتة، سَواءٌ كانت كامنة ومقموعة، أم هي كانت حرّة ومعبّرة عن نفسها بوضوح.
إنّ من البديهي أن يُعرَّف عن هذا المتوسّط بهويّة حياته وبنشاطات حوضه، أكثر ممّا يعرَّف عنه بمياهه وأسماكه. ولئن كانت مياهه قليلة الإتّصال بمياه البحار في الخارج، وهو أمر جعله يستحقّ إسم "بحر مُغلَق"، فإنّ نشاطات شواطئه ترسم وتفتح أفقين عظيمين: الأول بحريّ يشمل كلّ الحوض ويؤلّف "العالم المتوسّطي". والآخر قارّيّ يتوغّل بعيداً في عمق القارّات الثلاث ليكوِّن منها كامل "العالم القديم" تقريباً. إنّهما عالمان منفتحان ينطلقان من بحر منفتح بإمتياز.
إنّه، إذن، بحر متّصل في حوضه، وواصل بين القارّات. إنجازاته ومكتسباته الثقافية إنطلقت حرّة في شبكات إتّصال كانت تتكاثر وتزداد تشابكاً وتلاقياً مخصباً.

وهذا كان يكثِّف التبادل ويقوّي حركة الإنتقال ويُغني المجموعات الثقافية في تعدّد مستوياتها وصفاتها، على إحترام لها جميعاً وعلى مراعاة لخصائصها. كما كان يضاعف خيارات الشعوب والثقافات التي كانت محكومة بالعزلة أو بالمواجهة والتصادم، فيوفّر للتنوّع بذلك، ولأوّل مرّة، خيارَ التضامن الثوريّ، وهو أحد الخيارات الثورية الأكثر حسماً والأعمق أثراً في التاريخ، إن لم نقل أشدّها أثراً في المطلق.

إنّ خيار التضامن في التنوّع هو أعظم الخيارات شأناً، إذ أنّه أمّن التحرّر من عزلة الماضي في معظم وجوه الحياة لمعظم الثقافات في القارّات الثلاث.

وهو أكثرها إنسانية. لأنه، بحكم لغته الجديدة، غالباً ما أَقنَع ونادراً ما قَمَع.

وهو أكثرها تضامناً، إذ أنّ أعظم الشعوب وأصغرها، أقواها وأضعفها، أكثرها غنىً وأشدّها فقراً، وجدت جميعها فيه فرصاً للإسهام بما عندها وللإفادة من إمتيازات إنخراطها في العلاقات. إذ أنّ شبكة الإتّصال، القوية والحرة التي كانت تغطّي الأبعاد وتخترقها إلى ما لا نهاية، وَهَبت الصغار والمستَضعفين فرصهم التاريخية الأُولى في الإفلات من إستبدادية ميزان القوى الإقليميّ أو المحلّي، متيحة لهم أن يلتزموا وينخرطوا في هذه الحركة، فيجدوا فيها مكاناً لهم ولخصوصية إسهامهم، كما يجدون أمناً نسبياً تحقّقه الشبكة لهم.

وهو أطول الخيارات الثورية دَيمومةً، إذ أنّه يبقى مصدر إلهام ومعلماً ثورياً بمُثُله العليا كما بوسائله كلّما إستُنفدت الظاهرات الثورية اللاّحقة أو تعثّرت في مسارها لسبب خيانتها مُثُلها العليا أو لإعتمادها من الوسائل ما يخون منطلقها وروحها الأصل.

إن تثبيت مبدأ التضامن بين الثقافات المتنوِّعة والمتفاوتة هو إنجاز ثوري حقيقي أثبت أنه قادر على تخطّي سدود الركود الحقبية في التاريخ، وأنه متنبِّه ومستعدّ لمواجهة التيارات المضادّة، وأنه أمين على هدف إنطلاقه ومنفتح على مكتسبات مساره، وأنه إنسانيّ شامل وفي حالة الإكتمال الدائم لأنه يبقى مفتوحاً على المستقبل.
كان ذلك في صيغة "عالم". وفي رأينا أن ولادة ظاهرة "العالم" في تاريخ الإنسانية كوّنت أعظم منعطف في هذا التاريخ، وهو منعطف إفتتح عصراً إنسانياً وعالمياً جديداً. ومن الخطأ الإعتقاد أنّه عصر قد باد وولّى. إننا، الآن ما زلنا فيه. إذ أن هذا العصر العظيم لم يُستنفَد بعد، وهو لا يزال متقدِّماً في مبادئه وإنجازاته.
والعصور القديمة، اللاّحقة والمتأخِّرة، عصور "الإمبراطوريات"، هي التي سجّلت تراجعاً ومثّلت إنتكاساً. والتاريخ المعاصر نفسه، بثوراته المحدودة وذات النَفَس القصير، وبتقدّمه المقلق بقدْر ما هو باهر، وبوعوده المسكونية غير المُقنِعة والتي لم تتحقّق على كلّ حال، وبنظامه الدولي المتنازَع عليه بحدّة والمرفوض أساساً بسبب ما يسوده، غالباً، من الإزدواجية المضلِّلة ولأنّه محكوم، أساساً، بمنطق ميزان القوى والإحتكام إلى القوة الغاشمة...، هذا التاريخ المعاصر يصعب عليه أن يدّعي أنه إفتتح عصراً عالمياً جديداً لم يسبق له مثيل، وأنّه تخطّى، بالفعل، عتبة العصر الأوّل الذي أسّس ظاهرة "العوالم" كصيغة ومضمون لعلاقات الشعوب والقارّات.
إنّ عصر "العوالم" يضرب في الماضي السحيق على إمتداد خمسة أو ستّة من آلاف السنين، وهو يمتدّ حتى عصرنا الحاضر فيفاجئنا بحيويّته التي لا تكلّ، وبمعين لا ينضب من الوعود المستقبلية والآفاق المفتوحة. إنه يؤلّف الثورة العظيمة الثانية، الألفيّة السنين، في تاريخ الإنسانية.

الثورة الأُولى، النيوليتية، أتاحت للإنسان أن يخلق تجمّعات وإنشاءات ثابتة، وأن يسيطر على بيئته في شكل جديد، وأن يرقّي وسائله التكنية، وأن يحسّن أوضاع معيشته، وأن يؤسّس محاور عمرانية متفرّقة أو متباعدة.

أما الثورة الثانية والأخيرة حتى أيّامنا هذه، فهي ظاهرة المجتمعات المنفتحة والعوالم، وقد نشأت بعد ظهور المدينة وعمرانها.
وإذا كانت الثورة الأُولى قامت على الإستقرار، فهذه الأخيرة تأسّست على الإتّصالات والعلاقات. وقد وصلت الجماعات المستقرّة بعضها ببعضها الآخر، وحوّلت، للمرّة الأُولى، تلك الأعداد الكبيرة من التجمّعات البدائية وتلك المراكز المتطوّرة المتفاوتة في تطوّرها والمتفرّقة والمنعزلة، حوّلتْها إلى مجموع متناسق من العلاقات والإتصالات المكثّفة ومن المبادلات والمواصلات الحرّة، ينعم، على درجات مختلفة، بلغة ثقافية مشتركة بين أطرافه. وهي هذه نقطة الإنطلاق لمفهوم التضامن.

في هذا الضوء كيف نستطيع أن ندّعي أنّ أزمتنا الحديثة تخطّت ذلك العصر الحضاري، ما دامت تفتقد إلى عنصر التضامن الذي هو الهدف الأنبل والأكثر ضرورة؟

إن عصر اللغة المشتركة والتضامن الإنساني هو عصر عظيم فاصل في تاريخ الأنسانية. أطلّ على الإنسانية واستطاع دائماً أن يعود بعد كل غياب حقبي، وهو مؤهّل، بمفاهيمه ومبادئه، أن يبقى دليلنا حتى المستقبل البعيد.

ليس ثمّة ما يسمح لنا، في أزمتنا الحاضرة، إنطلاقاً من الأوضاع الجيوسياسية والدولية القائمة، بأن نتأكّد من إتّجاهاتنا الحالية نحو المستقبل. هل نحن نتّجه إلى حيث تنتظرنا الكوارث في ما هو إنتحار، أو نحن نمضي في طريق الإنقاذ؟

لعلّ الإنقاذ لا يكون إلاّ بالتضامن العام والعالمي الذي وجد نموذجه الأصلح وتجربته التاريخية الناجحة في ظاهرة "العوالم" ومبدأها السليم.

الحصن الشرقي للعالم المتوسّطي

في المتوسّط وإنطلاقاً منه، نشأت ظاهرة "العوالم". فيه رأت النور واكتسبت خصائصها. وعلى شاطئه الشرقي، في الهلال الخصيب بالتحديد، عرف التاريخ أوّل مجتمع منفتح. كان هذا المجتمع، في داخله، مصهراً ناجحاً منفتحاً على التفاعل والإختلاط والإندماج. وكان، نحو الخارج، إشعاعاً حضارياً وشبكات إتّصال غنية بمحمولاتها ومنقولاتها الثقافية، وغير مثقلة بالآلة الحربية.

هذا الهلال الخصيب لم يكن فقط مؤسِّساً ورائداً، بل ظلّ دائم الحضور في خلال المسار الطويل، ممثّلاً روح المجتمع المنفتح، وحامياً حياة المتوسّط وحضارته.

كان الهلال الخصيب، في داخل المتوسّط، مركز مقاومة في وجه روح المجتمع المنغلق الذي عبّر عن نفسه إمّا بلغة ثقافية قائمة على التمييز الحادّ والتعصّب الأعمى، وهي بالتالي مولّدة نزاعات، وإمّا بلغة مادّية بحتة تعكس مبدأ القوة الغاشمة، وهي بالتالي حربيّة النزعة تحمل المواجهات المهلكة.

وكان الهلال الخصيب، في وجه الغزوات الخارجية، الحصن الدائم للمتوسّط، وهو أمين وآمن يتعذّر إجتيازه. حَمى الحضارة المتوسّطية من أخطار الموجات التدميرية التي تدفّقت عليه، في خلال القرون وعشرات القرون، في إتجاه المتوسّط، مدفوعةً بقوى أخرى من ورائها أو منجذبةً نحو خيرات الحياة المتمدّنة والمرهَفة في العالم المتوسّطي.
وكثيراً ما كانت الموجات الشرقية والشمالية (الأسيوية) على ثقافة بسيطة نسبياً، إن لم تكن بدائية، وذات نزعات أحاديّة النظرة وكلّية المبدأ. وهي نزعات غير قابلة للحياة، بما هي عليه، في بيئة قائمة على الإعتدال والإرهاف والتوازن الصحّي، حيث كانت الإفتراقات والتناقضات الكبرى تنتهي إلى التقارب والتحوّل حتى الإمّحاء، وذلك بفضل عملية فعّالة وناشطة في الدمج المصهري.
هذا الحصن المنيع للحياة المتوسّطية مثَّل، بشكل دائم تقريباً، محطّةً أخيرة لهذه الموجات البدائية. ونجاح هذا الحصن يعود إلى روح وآلية دفاعيَّتَيْن مختصَّتَيْن بميّزات المجتمع المنفتح.

السيناريو الأول: كان حول الهلال الخصيب حزام من المراكز الثقافية. كما كان ثَمَّة مراكز أُخرى مزروعة وموزّعة على شبكة الطرقات في العالم القديم. فكانت هذه المراكز الثقافية تعمل على تخفيف حدّة الموجات المتدفّقة أو على تلطيف بدائيّتها، حيث لا تصل هذه الموجات إلى الهلال الخصيب، ومنه إلى المتوسّط، بإندفاعها الكامل أو ببدائيّتها الخالصة.

السيناريو الثاني: كانت هذه الموجات تذوب وتندمج بفضل المصهر العظيم في الهلال الخصيب.

السيناريو الثالث: كان الهلال الخصيب يلجأ، بعد إستنفاد الوسائل، إلى ردّ هذه الموجات بالقوّة، وإلى إبعادها عنه وعن حوض المتوسّط.

مفهوم الأمن والسلام في ما هو "عالم"

توقّفنا طويلاً أمام ظاهرة "مجتمع منفتح – عالم"، وربّما كان ذلك على حساب ظاهرة "مجتمع منغلق – إمبراطورية"، لأنّ هذه الأخيرة حَظيت بحصّة الأسد في النتاج التأريخي التقليدي وفي الذاكرة الجماعيّة للمجتمعات الغربية المعاصرة، في حين أن الأُولى كادت تكون مجهولةً إمّا لنقصٍ في المعلومات، وإمّا بتأثيرٍ من أحكامٍ مسبقة أو تفسيرات بسيطة وتبسيطية طُبِّقت على ظاهرةٍ هي في غاية التعقيد وذات خصائص فريدة.

لقد وجدنا ضرورياً أن نعطي هذه اللمحة عن ظاهرة "عالم"، لكي نُبرز وجهيها الرئيسيين أللّذين يتعلّقان بموضوعنا "نموذج النزعة العالمية" و"مفهوم السلام والأمن" الخاصّين بهذه الظاهرة. وهذا سيُتيح لنا أن نقارنهما، نموذجاً ومفهوماً، بنظيرَيهما في الظاهرة الـ"إمبراطورية" التي تجد في الإمبراطورية الرومانية نموذجها الأمثل أو قمّتها.

حين قدّمنا عرضاً موجزاً عن ظاهرة "مجتمع منفتح – عالم"، شدّدنا على السِّمات البارزة التي تشمل، في ما تشمل، سِمات النزعة العالمية الثورية، وهي سِمات فعّالة ومستمرّة ومتينة. وعلينا أن نؤكد ونشدّد على أنّ الأوجه والعوامل نفسها التي قامت عليها هذه النزعة العالمية، لعبت الدور الأوّل في تأمين السلام والأمن أيضاً.
لقد تحقّق هذا الأمن، كما ذكرنا سابقاً، بفضل "روح" و"آلية". أمّا روح الأمن فقامت على قبول "الآخر" والإعتراف به، فولَّد هذا الموقف من "الآخر" تضامناً يُشيع الطمأنينة والأمن.

في داخل المجتمع تسود روح المصهر. والمصهر مطبوع على الإنفتاح، والحفاوة، والتوفيق. وهو فوق كلّ شيء وبحكم الضرورة المنطقية والحقيقية، رحيم ومتسامح. هذا ما يفسّر، مثلاً، التسامح الديني في كلّ تلك العصور القديمة السابقة للعهد الإمبراطوري. لم تعرف تلك العصور حرباً دينية ولا تميّزاً على أساس الدِّين. بل كانت الأمور على عكس ذلك تماماً. فالعواصم الكبرى والسلطات الحاكمة فيها لم تكتفِ بإحترام المعتقدات الدينية وشعائرها في المدن الخاضعة لها أو في التجمّعات الصغيرة الملحقة بها، بل حملت تلك المعتقدات والرموز والشعائر إلى العاصمة نفسها واعترفت بها وضمّتها إلى هياكلها الجامعة، حيث مجمع الأرباب، لتصبح موضوع إحترام وعبادة عند الجميع في العاصمة وفي كل المملكة.

هذا في داخل المدن والبلاد.

أما في الخارج فقد سادت روح الآفاق المنفتحة التي أغناها التنوّع والمبادلات.

وهكذا نجد، في الداخل كما مع الخارج، روح إلتزام وإنتماء طوعيّين، وهي روح تحيك، بمثابرة يوميّة وباستمرار، نسيجها الأمني.
هذه الروح تجسّدت في آلية. والآلية، بدورها، تحوّلت إلى وسائل.

في داخل المصهر، تنشط عملية ثقافية – إجتماعية إندماجية، تُقارب بين العناصر غير المتجانسة لتؤالف بينها، فتخفّف، بذلك، من حدّة الصدمات، وتجنِّب المجتمع حروب الإفناء الجسدية والخُلُقيّة والثقافية.
هذا المفاعل الإجتماعي – الثقافي الخاصّ بالمصهر أمَّن للمجتمع سلاحَه الرئيس لتوفير الأمن. وهو أمن المجتمع، لا أمن الدولة. إنه أمن يرسّخه الإستقرار الشامل في المجتمع. وهو غير مرتهن للأوضاع السياسية والمالية في شؤون الدولة، فلا تقضي عليه الإضطرابات السياسية ولا يهدّده العجز في موازنات الجيوش والشرطة.

وفي خارج المجتمعات الإفرادية، تتجسّد هذه الآلية الأمنية في أمداء ثقافية مطمْئنة تؤلّف أحزمة ثقافية بحرية موصولة ومشدودة إلى نظائر قارّية مجاورة، وهي كلّها مفتوحة على عمق القارّات ومساحاتها الداخلية بواسطة شبكات الإتّصال.

هذا النمط الحياتي لطّف، في شكل ملحوظ، من حدّة الخطوط الفاصلة بين الشعوب والثقافات والقارّات... إلخ، وقرّب المسافات المادّية والنفسية، وغرس، في ضمائر جميع الأطراف، معالم الثقة والتقارب، وذلك بالتغيير الجذري الذي أدخله على مفهوم "الآخر" و"الخارجي" و"الغريب" و "المختلف"، وهم جميعاً "مجاهل" كانوا يمثّلون، في السابق، العدوّ الذي يجب أن يُخشى ويُتَّقى أو أن يُلغى من الوجود، أو البربري الذي يجب إحتقاره وتجاهله. ويجدر بنا أن نعود، هنا، إلى ما سبق وقلناه عن أنّ "البربري" هو، في نظر اليونانيين، كلّ ما ليس يونانياً. و"العدو" هو، في نظر الرومان، كل ما يقع خارج الحدود الرومانية.

أحكام مسبقة تأريخية

من المدهش أنّ معظم المؤرّخين لم يعترفوا بديناميّة السلام والأمن هذه، ولم يقدّروها حقّ قدْرها، وهي دينامية لا يمكن فصلها عن دينامية النزعة العالمية. كلتاهما خاصّة بظاهرة "العالم" وملازمة لها. وقد زوّدتا العالم المتوسطي بنظام دفاعي متين وثابت.

إذ أنّ النتاج التأريخي، الكلاسيكي والتقليديّ، نادراً ما عرف وأقرّ هذه القراءة التأريخية أو الرواية التاريخية.
فمن ناحية أُولى، لم يعترف المؤرّخون بوحدة غير الوحدة السياسية العسكرية التي حقّقتها الدول الكبرى والإمبراطوريات. وهكذا جهلوا وتجاهلوا وحدة العالم المتوسّطي وخصائصه، ووحدة الهلال الخصيب، التاريخية - الثقافية، في العصور السابقة للإمبراطوريات (الفارسية واليونانية والرومانية – البيزنطية).

ومن ناحية ثانية، لم يعترفوا بنزعة عالمية غير العالمية التي عرفتها عصور الإمبراطوريات. فلم يستطيعوا أن يروا عالمية ما خراج الشكل الإمبراطوري. هكذا فاتهم أن يُبصروا التضامن واللغة المشتركة في عالم متوسّطي هو في حالة التكوّن أو بعد أن تمّ تكوّنه. مع العلم أنّ هذين التضامن واللغة الجديدة هما أوّل المبادرات والإنجازات ذات النزعة العالمية والإنسانية العامّة في التاريخ البشري.

وأخيراً، ومن ناحية ثالثة، تمثّل الشذوذ التأريخي، بل الثقافي، في النظرة إلى الموضوع الأمني. وقد ترتّبت على ذلك نتائج جسيمة وثقيلة الوقع. إذ أن المؤرّخين إعتبروا النظام الأمني الروماني مثالاً أعلى، واتّخذوه نموذجاً أوحد أو أمثل، بينما هو نظام قوامُه الوحيد الخطوط الدفاعية على الحدود، والآلة الحربية.
وبذلك فات المؤرخين أن يعترفوا بفاعليّة النظام الدفاعي في نموذج "عالم"، وهو نظام يرتكز، في شكل أساسي، على الأمن الجيوثقافي: الدفاع عن الثقافة بالثقافة، أو حماية الثقافة بالثقافة.

هذا الشذوذ كاد يكون شاملاً في أسرة المؤرِّخين. حتى توينبي لم ينجُ من هذه التجربة ووقع في الخطأ الكبير. فهو لم يعترف بنزعة عالمية في التاريخ القديم إلاّ بما كان منها في الإمبراطورية الرومانية. واضح أنه أُعجب بنوع من المسكونية اليونانية – الرومانية قياساً إلى تاريخ بريطانيا العظمى، لاسيَّما أنّه، حين نظر إلى تاريخ هذه الأخيرة، كان يعكس خيبة جيله (الجيل ما بعد الفيكتوري) وهو يقوّم الرصيد الهزيل والقاتم الذي كان للإمبراطورية البريطانية (كما للإمبراطوريات الأخرى المعاصرة) في ما يخصّ النزعة والقِيَم والمكتسبات الإنسانية.

المتوسّط "إمبراطورية"

الإمبراطورية اليونانية – الرومانية
لو أن هؤلاء المؤرِّخين أمعنوا النظر في زوايا أُخرى، لكانت الإمبراطورية اليونانية - الرومانية تقلّصت في أعينهم أمام رحاب "العالم القديم" وروحه المتميّزة، وهو عالم تكوّن إنطلاقا من العالم المتوسّطي وعلى صورته ومثاله، بقدْرٍ أو بآخر.
لقد حاول الرومان أن يرِثُوا العالم القديم. لكنّهم فشلوا في ذلك. وانتهى بهم الأمر إلى فرض إمبراطورية، فكانت طوقاً دقيقاً إلتفّ حول عنق المتوسّط. يكفينا أن ننظر إلى خريطة الإمبراطورية الرومانية لندرك أن الرومان إكتفوا، في الشرق، بالشريط الساحلي الكافي لتطويق المتوسّط.

إنّ مفهوم الخطوط الدفاعية على الحدود المغلقة فصل المتوسّط في شكل جذري، بل عزله عن مداه الحيوي، وحتى عارضه به في شكل أساسي.
هذا المفهوم للأمن الخارجي، من جهة أُولى، ومشروع الرَّوْمنة داخل الإمبراطورية، من جهة ثانية، إلتقيا في مصبّ واحد على معارضة مزدوجة: معارضة الحوض مع الخارج، ومعارضة الروماني مع "الغرباء" داخل الحوض. وهكذا تمّت عملية الخنق على مستويين: تدمير شبكات الطرق بين بلدان الحوض وبلدان القارّات، وتغريب ثقافات الحوض وإقتلاعها. وهكذا كان الخط الدفاعي LIMES والرَّومنة عامليْ إختناق، إذ كان الشريط الساحلي للمتوسّط، الذي يكوِّن الإمبراطورية، خيطاً لخنق المسكونية والأمن لا خيطاً لنسجهما في حياة المتوسّط.

مفهوم الأمن والسلام في ما هو "إمبراطورية"
لم يقم الرومان بتقليص مساحة العالم القديم فحسب. لقد غيّروا روح العالم المتوسّطي. إنغلق الحوض المتوسّطي على نفسه فاقداً روحه ودوره، وهو الذي كان المركز الشامل الأول، والمنطلق الحضاري، وصاحب المبادرات، والمُحاور العالمي الرئيسي، وبيئة الإختلاط والتفاعل، والمصهر الثقافي بإمتياز لعالم قديم كان يشمل تقريباً مجمل الأقسام المعروفة من القارّات الثلاث.

هذا التقليص الفيزيائي، وهذا التغيير في الروحية كانت لهما نتائج مأسويّة في الصعيدين الثقافي والجيوسياسي. فبالنسبة إلى أمن الحوض وإزدهاره، ثَبَت أن الخطوط الدفاعية الفاصلة هي أقلّ فاعلية من شبكات الإتّصال مع الأقسام الأخرى في العالم القديم، وأن الصرامة السياسية - العسكرية هي أقل أماناً من الحوار وتوجيه العقول والنفوس، وأن الإنطواء على الذات هو أقل إقناعاً، وأقل إغناءً وإخصاباً، وأقل إشعاراً بالأمان من الإنفتاح والتبادل الحرّ. لقد تحوّل المتوسّط إلى بحر مُغلَق، أقل مسكونيةً منه في أي وقت مضى، وأكثر تعرّضاً للأخطار، وأقل منعةً منه في أي وقت مضى.

لقد وُضع كامل أمنه تحت رحمة جنود روما.

وإن قراءة جادّة للتاريخ الروماني قد تكشف لنا أن الجنود أسهموا في إفقار المتوسّط أكثر مّما فعلوا لأغنائه، كما أسهموا في الإخلال بأمنه وإستقراره أكثر مّما فعلوا لتوطيد الإستقرار والأمن وحمايتهما.

في هذه الحالة ظهر مؤشّران معبّران. ظهر عجز عن إقناع الشعوب في الإمبراطورية، وعجز عن هزم الغزاة الخارجيين.

كان من نتائج العجز الأوّل أن إنتصبت مراكز مقاومة في القارّات الثلاث من الشريط الساحلي المتوسّطي. وقد عبّرت عن رفض مزدوج. فهي، من جهة أُولى، ترفض أن تختصر نفسها وأن تتحوّل إلى ما يرسمه لها النموذج الروماني. وهي، من جهة ثانية، ترفض أن تنقطع عن بقيّة العالم القديم وأن تقف ضدّه.

وكان من نتائج العجز الثاني أنّ الغزاة، من برابرة وغيرهم، لم يلبثوا أن تسلّلوا إلى الإمبراطورية ثُمّ إحتلّوها من بعد. لقد استطاعوا أن يجتاحوا كامل الإمبراطورية الغربية بسرعة كبيرة نسبياً بحيث لم يبق منها، في القرن الرابع، سوى الهيكل، وفي القرن الخامس، سوى الذكرى.

المتوسّط يقاوم

شعوب المتوسّط قاومت سياسات الرَّومَنة ومتطلّبات الإمبراطورية. وهي، بهذه المقاومة، لم تكن تدافع عن هُويّاتها وخصائصها فحسب، بل أيضاً عن نمط حياتي عالمي مشتَرك، هو نمط قائم على العلاقات والمبادلات، ناعم بالحرّية وبتألُّق التنوّع وإزدهاره، حيث كانت الأصالة والفرادة عند كلٍّ من الشعوب تكتشف نفسها وتؤكّد نفسها فيعترف بها الجميع.

هذه الشعوب كانت تدافع عن "عالم" ضدّ ما هو مقتضيات "إمبراطورية". ففي ظل الإمبراطورية، كانت هذه الشعوب تعاني تغييرات جذرية في أنماط حياتها وعلاقاتها، وذلك ليس فقط على مستوى حياتها في المتوسّط والعلاقات بينها فيه، بل أيضاً على المستوى الدولي وعلاقاتها ببقيّة العالم القديم. إذ إن العالم المتوسّطي كان حريصاً على أن يكون، وأن يبقى، جُزءاً من عالم أوسع خلَقه هو نفسه من الأطلسي إلى الشرق الأقصى، وهو عالم خاطته شبكات الطرق، وعجّت فيه حركة الإتّصالات والمبادلات والإنتقال الحرّ، فعرف التاريخ به، لأوّل مرة، نمطاً جديداً من علاقات تُنتج بحبوحة ورخاءً، وتولّد أمناً.

أمّا الإمبراطورية فكانت على عكس ذلك. إذ إنّها قطعت شرايين العلاقات الدولية وفرضت العزلة على شريط الحوض المتوسّطي، وجعلته يتعارض مع الخارج، ففرضت على نفسها كما فرضت على شعوب المتوسّط شاغلاً دائماً يقضي بالدفاع عن خطّ دفاعي – حدودي يعزلها عن الخارج ويصادمها به، وهو خطّ رسمته في شكل تعسّفي ووفقاً لقدْرات الجيش الإمبراطوري، لا لإعتبار آخر.

هذه المهمّة الجهنّمية، مهمّة الدفاع عن الحدود، إستهلكت نشاطات الشعوب المقهورة واستنفذت مواردها وطاقاتها وعرّضت أراضيها للتحوّل إلى مجرّد ساحات للقتال، مع كلّ ما يجرّه ذلك عليها من تدمير وما يفرضه عليها من تضحيات.

لكنّ شعوب الشريط المتوسّطي، وهي تحت الحكم الإمبراطوري، قاومت هذا الوضع. وعبر هذه المقاومة شهد التاريخ مواجهة بين ما هو "عالم" وما هو "إمبراطورية".

ففي الجانب الأوّل، جانب "العالم" نشهد تعلّقاً واعياً وقوياً بنزعة إنفتاحية تراهن على الإنفتاح العالمي مصدراً للغنى والإزدهار وضماناً لنسقها الأمني.

وفي الجانب الآخر، جانب "الإمبراطورية"، نجد تعبيراً عن إرادة القهر والقمع، وهي تُفقر وتُنهك وتستنفد، فضلاً عن أنها محكومة بأن تنصرف كلّياً إلى تأدية وظيفة وحيدة هي أن تحارب، وأن تمدّ الحرب بكلّ ما عندها، وأن تتكبّد ما تجرّه عليها الحرب.
تبدّى بوضوح أن التوفيق بين هذين الجانبين صعب جداً، بل هو مستحيل.

الأوضاع الراهنة السائدة في المتوسّط

إكتفينا، ونحن في صدد النموذج الإمبراطوري، بالكلام على الإمبراطورية الرومانية. إعتبرناها نموذجاً إمبراطورياً. والإمبراطوريات الأوروبية الحديثة سارت على خطاها بدرجات متفاوتة، حاملة الخصائص نفسها، طامحة إلى الغايات الأخيرة نفسها، مستعينة بالوسائل نفسها، ومنتهية إلى المشهد نفسه وهو مزدوج المأسويّة: الشرّ المحصود والشرّ المزروع.

هذه المأساوية المزدوجة هي من خصوصيّات الظاهرة الإمبراطورية الكلاسيكية، وهي تميّزها في الشرّ على الغزوات والإجتياحات البدائية. إذ أنّ أضرار الإجتياحات البدائية تنحصر في التدمير الفيزيائي وفي وحشية الأعمال. وتكون هذه الأضرار، غالباً، قابلة للإصلاح على يدً الأجيال اللاحقة للجيل الضحية. بينما يقوم المفهوم الإمبراطوري السياسي - العسكري على نظرة ثقافية أوسع تستمرّ فاعليّتها بعد سقوط الإمبراطوريات الفيزيائي، فتسحب أضرارها على الأجيال اللاحقة وذلك بخلق ثقافة مجتمعات مغلقة، ثقافة تتّجه نحو إنكار "الآخر" ونحو إرادة "قهر الآخر" وإلغائه، وإفتعال أوضاع متفجّرة تولّد مجابهات وصدامات مهلكة.

من هنا أن العصور الإمبراطورية تفرض إلتزامات على المستقبل، بل تربط المستقبل وترتهنه.

إن آثار هذا الإرتهان ومخلّفاته تطفو الآن في المتوسّط، ساعية لتدمير روحه الأساس ولتحويله إلى صندوق مغلَق ومتفجّر.
ولكي نصف السِّمات البارزة للوضع الراهن في المتوسّط، ولكي نعيِّن ديناميّة الأحداث الجارية فيه، نكتفي ببعض المعاينات.

التفتيت

إنّنا نشهد في هذا الجزء الشرقي من المتوسّط، وتحديداً في الهلال الخصيب، سَيرورة تفتيت تُطبَّق، بمنهجية، في الداخل، وهي تستند إلى دعامة من الخارج.

إنّ هذا الحصن لَمستهدف.

وإنّ زواله الفيزيائي والثقافي والخُلُقي هو الهدف.

والحرب في لبنان هي مثَل أوّل وحلقة أُولى في السلسلة. وما يصيب الآن المجتمع في لبنان، أخطر بكثير من الحرب العادية. هو دوّامة من شأنها أن تخلق فُتات مُتّحدات مُغلقة محكومة بأن تتصارع فيما بينها على حلبة الموت بحيث لا يخرج أحد حياً.

إذاً، تشابك مَرَضيّ بين فُتات من المتّحدات المغلقة، وهي تقدّم بشكل متسارع، على الساحة اللبنانية، عرضاً مصوّراً لمصير المتّحدات المغلقة، وهي في حال إحتضارها، وهذا يحصل بالرغم من الرفض الذي يبديه الشعب اللبناني، ومن المقاومة الباسلة التي يقوم بها. ذلك أنّ خلق المتّحدات المغلَقة ما عاد مجرّد مفهوم مرهون نجاحه أو فشله، كلّياً، بحالة المجتمع الموضوعية وبإرادته الذاتية. لقد أصبح تقنية عالية قابلة للتطبيق في غالبيّة المجتمعات بدرجات متفاوتة من النجاح.

المقصود، عندنا، الآن، تفتيت الحصون الإنسانية العمرانية لتحلّ محلّها ترسانة حربية. فتحلّ الجيوش محلّ المجتمعات، والآلة الحربية محلّ الثقافة. إنه لَمشروع مسخ يواجهه المتوسّط على ساحله الشرقي لأوّل مرّة منذ فجر التاريخ.

خطوط الفصل والمجابهة

المتوسّط تنوُّعٌ يتمثّل في الأطراف التي تكوّن هذا الحوض.
إنّه تنوُّع مُغنٍ ومُخصب يشهد على روح الإختلاط والتمازج وعلى الفرادة المتوسّطية التي هي في أساس هذا الروح.

وإنّه تنوّع مرهون تقدُّمه وإزدهاره وبقاؤه نفسه بوجود سياق من التقارب والتضامن.

هذا التنوّع في أطراف المتوسّط ومكوِّناته هو، الآن، مرغمٌ على التحول إلى فسيفساء من الأجزاء العازلة غير المتفاعلة تكون خاضعة لخطوط فصل ومجابهة في ما بينها تعارض، هنا، ثقافة بثقافة، وتعارض، هناك، المسيحية وبالإسلام، وتعارض، هنالك، الشرق بالغرب. وهذا يُحيي ويعزّز إرثاً كاملاً من الظلامية ومن "الحروب المقدّسة"، ويضع، في خدمة المجابهات والإفتراقات القسرية، كل وساءل الأِتّصال الحديثة. بينما كانت البشرية دائماً تأمل في إستخدام هذه الوسائل الحديثة لتقريب المسافات الفيزيائية والنفسية بين الأطراف بدلاً من تسريع القتل والإنتحار على مستوى كل قارّة وبين القارّات الشريكة في حياة المتوسّط.

خلق الأوضاع المتفجّرة

ينجم عن السياسة المذكورة آنفاً سياسات تقوم على أن يسود وضع متفجّر في المتوسّط إنطلاقاً من حوضه الشرقي.

إنها سياسات تهديد مستمرّ، تقدّم الزيت والنار لإشعال مراكز رئيسية في المنطقة وإحراقها، ولتسعير حدّة النزاعات فيها، ولجعل هذا الجزء من العالم مشرعاً للنزاعات الدولية، فيكون مسرحاً لها. إنها سياسة عبث بحياة المنطقة، تستثير الغرائز لخلق بؤر لجرثومة جنون التعصّب وحماقاته، محاولةً، بذلك أن تفتتح عصراً جديداً تيوقراطياً، متعصّباً، متزمّتاً، ومُعْدِياً في هذه السنوات الأخيرة من القرن العشرين.

إحتكار السيطرة وإقصاء "الآخرين"
أصبح أكيداً، أكثر فأكثر، أنّ الترسانة الحربية والتجمُّع الصناعي يختصران إسرائيل، وهي تتأصّل وتفرض نفسها بالقوة الوحشية في المنطقة، وتجهد لإحتكار كل الإرث الإمبراطوري، وهي تدفعه إلى التفاقم في الحدود القصوى، إذ إنّها تُنزله منزلة المقدّس الذي تسحبه على العِرْق والدِّين والثقافة، كاشفةً عن روح إستئثارية غيورة تُصرّ على إقصاء كلّ وجود آخر، سَواءٌ كان حليفاً أم عدوّاً، لا سيّما الحضور الأُوروبي.

خاتمة

إنّنا نعتقد أن دينامية الأوضاع والملابسات الراهنة في المتوسّط، وسِماتها البارزة الآنفة الذكر، ليست فقط غير ملائمة لأُوروبا، بل هي مؤذية لها وفي غاية الخطر عليها.

الفراغ الذي تستشري إسرائيل في سبيل خلقه، والحصون الإنسانية والثقافية التي تحاول أن تدكّها وتلغيها، والحلفاء الذين تحاول أن تقصيهم وتغيّبهم، وخطوط الفصل والمجابهة التي ترتسم وتتحوّل إلى جبهات قتل في حروب مقدّسية من كل لَون، والسياسات التي تتوسّل الإكراه والعبث لتحقّق نهاياتها في جنون التعصّب، وإحتكار الإرث الإمبراطوري ودفعه إلى حدوده القصوى، والإرادة في إقصاء أُوروبا وفي إنهاكها بالضغوط الخارجية والداخلية... سلسلة من المعطيات الصارخة لا يمكن أُوروبا أن تنفي أخطارها البالغة أو أن تلطّف ممّا تُدخله في حياتها من فظاعات وقباحات.

إنّنا نعتقد أن أُوروبا أصبحت تَعي، أكثر فأكثر، الأضرار المتزايدة التي تلحق بها كل يوم، والتناقض المطرّد في حريّة حركتها. لكن تصرّفها لا يسمح بأن نستنتج أنّ وعيها كافٍ لأن يبلغ حدّ القناعات، وأنّ تصميمها كافٍ لرسم سياسات.

إنّ قسماً كبيراً ممّا أوردناه لا يكتفي بعرض المعطيات، بل يذهب إلى تقصّي أسبابها وتفحّصها.

وقد حاولنا أن نقترح أجوبة عن أسئلة من النوع الآتي:

لماذا تكون أوضاع المتوسّط الراهنة على ما هي عليه؟
أيّ رؤية للعالم تستدلّ بها هذه الأوضاع؟

أيّ نمَطْ حياتي وأيّ نوعية حياة تستلهمهما؟

أيّ مفهوم أمني يصاحبها؟

ما هي درجة الفاعليّة وما هي الحصيلة الأخيرة لهذا المفهوم؟

وأخيراً، هل أن هذه الأوضاع، وهذه الرؤية، وهذا النمَطْ الحياتي، وهذا المفهوم الأمني، وهي في سياقها الإمبراطوري، تؤلّف الوجه الوحيد للتراث المتوسّطي بكامله؟

لقد أجبنا بالنفي عن هذا السؤال الأخير، محاولين أن نُضيء على تراث أساس، هو الأصيل في المتوسّط، حصل التنكُّر له ولم يُعطَ حقَّه، ومع ذلك فهو باقٍ، وناشط، ومقاوم، وزاخر بالوعود من أجل المستقبل.

إنّنا نأمل أن يكون عرضنا لنموذجين، حيث كان للمنفتح بينهما أوّلية في الحياة المتوسّطية، قد أسهم في إعطاء أملٍ في رسم إتّجاه.
لكن ثَمَّة نوعاً آخر من الأسئلة حول أُوروبا الراهنة التي تعاني من المتوسّط أكثر مّما هي تُسهم فيه.

لماذا تلحق بها الأضرار في هذا الحوض بدلاً من أن تتمتّع بإمتيازات فيه بحكم إنتمائها الأساسي وبحكم خصائصها وخبرتها التاريخية الغنيّة في المتوسّط؟

لماذا هي محكومة بأن تتخلّف أبداً في هذا السباق وبأن تكون مهمّشة في هذا التشابك؟

وإذا صحّ ذلك، فهل حُكم عليها بأن تعاني هذا المصير في جميع الحالات من دون أن يكون لها أمل في مخرج للإنقاذ؟

لكي نرسم الإطار الصحيح لهذا السؤال الأساسي، قبل أن نحاول الإجابة عنه، نرى ضرورياً أن نسترجع بعض الأسئلة التي طُرحت في أوّل هذا الحديث:
أيّ متوسّط نحمي؟ أيّ متوسّط نتّقي؟

وبعبارة أُخرى، نسأل:

على أيّ متوسّط نُراهن بآمالنا؟ وإلى أيّ متوسّط ننتمي؟

إنّنا نختار، بدون تردد، المجتمع النمفتح – "العالم"، فهو يحمل الوعد بالرجاء، إلاّ أنّه مُثقَل بالمسؤوليات الجسام، ومتطلّب جهوداً بطولية.

ولكي تكون أُوروبا مدركةً، تمام الإدراك، طبيعة هذا المنعطَف، ولكي تتوافر فيها الإرادة لمثل هذا الإختيار، ولكي تتوافر لها القدرة على الذهاب حتى النهاية بمقتضيات مثل هذا الإدراك وهذه الإرادة، على أُوروبا أن تستكمل، في ذاتها، وعياً آخر، أشدّ ثورية من السابق، يعطي جواباً مباشراً عن السؤال الكبير التالي:
أيّ أُوروبا؟

هل هي أُوروبا المشبَعة بالمفهوم الإمبراطوري، لاسيّما اليوناني – الروماني، المستسلمة لإكتفائها بهذا التراث الذي تمثّل في "حروب مقدّسة" (دينية وثقافية)، وفي السيطرة باللجوء إلى القوة الغاشمة ومنطق توازناتها، وفي إنكار "الآخر"؟

أو هي أُوروبا المعجونة في العالم المتوسّطي، وارثة التجربة الطويلة التي تصبّ في خلاصات إنقاذية كبرى، فتُعطي أُوروبا هذه، إنطلاقاً منها، أملاً جديداً للمتوسّط، وتُعطي، إنطلاقاً من المتوسّط، أملاً جديداً للعالم؟