الحقيقة بدءاً من لبنان : 2

نظام ميليشيات: من العراق إلى لبنان

 
يوسف الأشقر, نشر على الإنترنت : السبت 18 آذار (مارس) 2006

كشفنا في مقال سابق (الديار 14 كانون الثاني) عن وقائع وقرائن تجعل من عصابة المحافظون الجدد وشبكاتها الإقليمية والمحلية أوّل المشتبَه بهم في عملية اغتيال الرئيس الحريري. وقلنا إنّ القصد هو اغتيال لبنان، وإنّ هذا القصد يتضح يوماً بعد يوم بدليل استمرار فصول الجريمة لاستكمالها. والتحقيق الذي يتجاهل هذه الوقائع والقرائن ويرفض النظر فيها، لا يهمل فقط عنصراً أساساً في جريمة وقعت، بل يرفض النظر في جريمة قيد التنفيذ.

إنّ عصابة المحافظون الجدد تعمل لإقامة نظام ميليشيات في لبنان تديره هي من بُعد وتشترك هي في عملياته، لتدمير حياة اللبنانيين، بدءاً بتدمير الحياة السياسية، كما فعلت تماماً في العراق. وقد سبق وقدّمنا رأس الخيط للكشف عن هذه الجريمة المستمرة: تدريب كادرات ميليشياوية لبنانية من عدة طوائف. وقد تمّ تدريبها في العراق وفي لبنان وفي بلدان عربية، وفي إسرئيل، وأصبحت جاهزة للعمل. وعملها الأول هو أن تدرّب، بدورها، وتقود تنظيمات ميليشياوية لبنانية أصبحت شبه قائمة وهي في حالة الانتظار. تنتظر قياداتها "النوعية" الجديدة، وتنتظر الإخراج الدرامي الذي يجعل من وجودها مطلباً سياسياً وامنياً عند طوائفها.

الإخراج الدرامي قد تؤمّنه الأحداث العنفية التي يسعى إلى افتعالها التصعيد السياسي والخطابي المسعور. ليس من تفسير آخر لهذا التصعيد. لكنّ هذه الأحداث، إذا انطلقت، سيصعب إيقافها عند حدود الأهداف القريبة التي رسمها السياسيون التصعيديون على قياس طموحاتهم الذاتية وبمعايير السياسة المحلية. كرة الثلج العنفية أكبر من قبضاتهم وأعلى من هاماتهم، لكنها تلائم تماماً المشروع الحربي الذي يرعى آليات التدمير في مجتمعات المنطقة. ونظام الميليشيات الجديد هو، الآن، هذه الآلية. من هنا أنّ عصابة المحافظون الجدد تحرّض على الأحداث العنفية كي تستكمل الشروط الضرورية لإقامة هذا النظام الذي أعدّته للبنان، كما أعدّته وأقامته في العراق.

على اللبنانيين أن يفتحوا أعينهم جيداً على الوضع العراقي، فهو النموذج والدليل. وعليهم أن يعلموا أنّ ما حصل في العراق بالأمس وأدّى إلى معاناته الراهنة، يتطابق مع ما يحصل اليوم في لبنان ويهدد مستقبله.
بالأمس، وعلى امتداد ثلاث سنوات، وجد العراقيون أنفسهم في حالة نزاع سياسي على أمور كثيرة. على النظام السياسي. على الدستور. على توزع الحقائب الوزارية. على القوانين، بما فيها القانون الإنتخابي. هذا فضلاً عن النزاعات على المواقع والمراكز وعلى أمور أخرى لا تحصى.
وفيما كانوا منشغلين بتفاصيل النظام السياسي المنشود ومختلفين عليها، كانت عصابة المحافظون الجدد تنشىء في العراق نظاماً ميليشياوياً يلغي الحياة السياسية. حياة العراقيين اليوم لا تحكمها السياسة بل يتحكم بها أشباح النظام الجديد.

هذا النظام الميليشياوي الجديد يدق الآن باب اللبنانيين، وقد يدخل عليهم عنوة ويلغي الحياة السياسية من أساسها، فيما القوى السياسية منشغلة بنزاعاتها على تقاسم الحصص السياسية. والأخطر في هذه النزاعات، أنّ بعض أطرافها يصرّ على خطوات تصعيدية من شأنها أن تؤدي إلى الأحداث العنفية، أي إلى تأمين الشرط الضروري لدخول النظام الجديد علينا من الباب الواسع. ولا تبدو هذه الأطراف متهيبة أو قابلة للإصغاء. فهي تدّعي أنها واثقة من خطواتها وتحرص على طمأنة اللبنانيين. والواقع، أنّ هذه القوى التصعيدية قد تعرف ما تريده من خطوة أولى، لكنها أقلّ معرفة بخطوة الغد، فيما هي، بالتأكيد، تجهل بقية الطريق، ناهيك عن ملابسات الطريق ونهاياتها. إنّ بعضها على جهل كامل، وبعضها الآخر على تجاهل مجرم لأخطار النظام التدميري والإنتحاري الذي يطرق بابنا.

ما مصير لبنان، شعباً ودولة، في ظل هذا النظام؟ وماذا سيصيب كل طرف لبناني، أيّاً كان موقعه السياسي أو وضعه الذاتي إذا قدِّر لهذا النظام ان يقوم ويستحكم؟
السياسيون سيكونون ملحَقين بالميليشيات لأنّ السياسة ستكون ملحقة بالأمن ولاهثة وراءه. والطوائف ستكون ذراع الميليشيات، السياسية، فيما هي تتوهم الآن أنّها ستجعل من الميليشيات ذراعها العسكرية والأمنية. فالميليشيات، هنا، هي الأصل، والآخرون فرع.
أما الشباب اللبناني، المراهن على التغيير والتائق إلى حياة جديدة، فستكون صدمته عظيمة، لا تقاس بها صدمته الأولى وخيبته بالطبقة السياسية التي تسلقت على كتفيه ثم انقلبت عليه. لا سيما أنّ النظام التدميري الجديد يستهدف الشباب بالأوّلية لقطع الطريق على المستقبل. وقد يجد الشباب نفسه أمام ثلاثة خيارات بائسة: أن يعيش مذلولاً ومهدداً تحت رحمة الميليشيات، أن يلتحق بها، أن يهاجر. علماً أنّ الشعب اللبناني بكامله سيكون موضوعاً أمام هذه الخيارات من دون أن يكون قادراً على تحمّل أيٍّ منها.
أما عناصر الميليشيات نفسها فقد تكون الضحية الكبرى. فهي، من جهة أولى، ستخضع لعملية تشويه منهجية في مفاهيمها، وأخلاقها، وأنماط حياتها وممارساتها. وهي، من جهة ثانية، ستكون مهددة في حياتها لا بسبب الأخطار التي تواجهها أثناء عملها، بل بسبب التصفيات الداخلية المنهجية التي تصيبها بعد أن تقوم بعملياتها ، لا سيما "العمليات الخاصّة" التي لا تسمح ببقاء شاهد حي عليها. وهذا ما يفسّر لماذا اعتمدت العصابة في العراق شبكات هائلة من المرتزقة، بحيث لا يكون سجلّ وفيات، ومراجعة بمفقودين، وتحقيق في ملابسات، ومحاسبة مسؤولين.

وأخيراً، في المقاومة وسلاح المقاومة، وفي موقعهما ومصيرهما.
إننا نؤكد أنّ ما تريده العصابة وتطلبه هو تحويل المقاومة إلى ميليشيا، وتحويل سلاحها النوعي وقتالها النوعي ضد العدوّ الإسرائيلي إلى سلاح ميليشياوي تقليدي ملائم للإقتتال فقط. ولا نستبعد أن يُعرَض على المقاومة أن تتخلى عن سلاحها النوعي كمقاومة مقابل أن تحتفظ بسلاحها الميليشياوي التقليدي. هذا هو، في رأينا، سقف "الحوار" الذي تسمح به العصابة. والبديل عن هذا، أو المصاحب له، هو افتعال أحداث تصعيدية وعنفية لاستدراج المقاومة إلى الظهور بالصورة التي يريدونها عليها: ميليشيا بين الميليشيات. من هنا نقول إنّ الدعوة إلى نزع سلاح الميليشيات هي شعار كاذب. ليس المطلوب تفريغ لبنان من الميليشيات بل ملؤه بها. وليس المطلوب بسط سيادة الدولة، بل إخضاع الدولة والمجتمع لنظام الميليشيات.

أما في ما يخص الدولة، فمن شأن نظام الميليشيات أن يلغيها في مبدأها وواقعها. إما أن يلغيها دفعة واحدة، وإما أن يضعفها ويهمّشها، فيما تتكفل التطورات بتجاوزها أو بتجاوز قدراتها. في العراق عمدت العصابة إلى الخيار الأوّل، فحلت الجيش والمؤسسات الأمنية ودمّرت مؤسسات الدولة الأخرى بشراً وحجراً وذاكرة. في لبنان، قد تلجأ العصابة إلى شلّ الدولة، وتعجيز القوى الأمنية، وتجويع الجيش، ثم تطالب الدولة ببسط السيادة فيما هي (العصابة) تعمل على بسط "الفوضى الخلاّقة" على المساحة إياها.

اللبنانيون قادرون، الآن، أن يمنعوا قيام هذا النظام التدميري والإنتحاري، شرط أن يتاح لهم أن يعرفوا حقيقته، وحقيقة الإعداد له، وحقيقة الأحداث والوسائل المعتمدة لتحقيقه. إنها الحقيقة الأولى التي يجب أن يتجند اللبنانيون لكشفها، وأن يتحاوروا في شأنها بمسؤولية، وأن يجتمعوا على التصدي لها بالأوّلية. ومن حق الشعب بجميع فئاته وشرائحه والدولة بجميع مؤسساتها أن تعرف هذه الحقيقة. بل من حق السياسيين التصعيديين أنفسهم، والشباب المتمرد والطامح، والعناصر الميليشياوية نفسها أن تعرف الآن ما سيحلّ بها على يد هذا النظام الجديد الذي سيفترسها هي قبل غيرها، بعد أن يعتبر أنها استنفدت دورها. ولعلّ ما يساعد اللبنانيين على ذلك هو النظر في السوابق التي ما تزال شاهدة حية، والإفادة من تجربة الآخرين.